يُحكى أن حمامة كانت تعيش بسعادة في غابة غناء جميلة فيها أشجار وحشائش وورود وازهار وبرك مياه وانهار. وبنت هذه الحمامة عشاً لها في أعلى شجرة باسقة لتضع بيضها فيه.
لكن كلّما وضعت بيضاً، تنغصت عليها حياتها وذلك بسبب ثعلب مكار ماهر بالخداع والاحتيال. فقد كان يأتيها عندما يفقس بيضها ويهددها إن هي ما رمت له فراخها، يصعد إليها ويأكلها وفراخها الصغار معاً. فتخاف الحمامة المسكية وترمي له صغارها فلذة كبدها ثم تبكي فراخها وحظها التعس.
وفي يوم من الأيام سمع بكاءها مالك الحزين. فحزن لحزنها وآلمه ألمها. سألها سبب حزنها، فأخبرته القصة وهي تحاول أن تتماسك فقد كانت قد وضعت بيضاً من جديد واقترب موعد فقسه.
فور سماع قصتها طمأنها مالك الحزين وأكدّ لها أنه من رابع المستحيلات أن يقدر الثعلب على تسلق شجرتها الباسقة ليأكلها والفراخ ونصحها بأن تستجمع قواها وتواجه الثعلب وتتحداه ليصعد إليها إن أراد فراخها.
وفعلاً لم يمض زمن طويل حتى شمّ الثعلب رائحة الفراخ الجديدة وذهب بنفس الحيلة إلى الحمامة. لكنها هذه المرة اتبعت نصيحة مالك الحزين بدقة وتحدّت الثعلب. غضب الثعلب غضباً شديداً وسأل الحمامة: من علّمك أن تقولي وتفعلي ما فعلت؟ فأخبرته بأنها اتبعت نصائح مالك الحزين. فتركها الثعلب ومضى، وشعرت هي بسعادة غامرة لا توصف بنجاة فراخها هذه المرة.
أمّا الثعلب فقد انطلق مسرعاً يبحث عن مالك الحزين. قد كان جائعاً وعقله يعمل بلا توقف ليجد حيلة يمكر بها مالك الحزين. وما إن اقترب من بحيرة كبيرة حتى لمح مالك الحزين واقفاً ينظّف نفسه. فذهب إليه وكلّه ثقة والابتسامة تعلو شفتيه وقال: طاب يومك يا مالك الحزين. أنا من أشد المعجبين بك وبمرونة جسمك وبجمال ريشك وطول رقبتك. ففرح مالك الحزين لسماع هذا المديح ونسي أن الثعلب مكار. تابع الثعلب: لكن أخبرني ماذا تفعل عندما تهب الرياح الباردة من جهة اليمين، ألا تبرد رقبتك الجميلة هذه؟ فرد مالك الحزين: أزيح رأسي جهة اليسار. فسأل الثعلب وماذا إذا هبت من اليسار، فأجاب مالك الحزين بسيطة أزيح رأسي جهة اليمين. فوصل خبث الثعلب إلى أشده وبدأت بطنه تصدر أصواتاً جائعة، فقال: وماذا إن هبّت الريح من كل الاتجاهات، ماذا تفعل؟ فقال مالك الحزين: أخبئ رأسي تحت جناحي. فأبدى الثعلب دهشة وإعجاباً شديدين بما قاله مالك الحزين. وطلب من مالك الحزين أن يريه كيف يفعل ذلك فإنّ هذا لشئ مدهش ورائع لم يره الثعلب من قبل.
وهنا كانت غلطة مالك الحزين. يبدو أنّه اغتر بنفسه وأعجبه المديح فنسي أنّ من يمدحه ثعلب ماكر ومراوغ. ونسي تماماً نصائحه إلى الحمامة بالانتباه من مكر الثعلب. وكان وضع مالك الحزين لرأسه تحت جناحه آخر حركة قام بها قبل أن يصبح وجبة دسمة للثعلب. فهو لم يترجم ما يقوله ويعظ الآخرين به إلى عمل يطبقه هو! فمن السهل جدًا تقديم النصيحة ، ومن الأسهل عدم اتباعها!
هل تعرفون قصصاً أخرى تحمل حكماً في طياتها؟ كتاب كليلة ودمنة الذي نقله ابن المقفع إلى العربية يزخر بقصص كهذه جديرة بالاطلاع.